عن فن الخط والتذهيب القرآنى

إن معرض The Spirit Illuminated إهداء لروح الشيخ أبى بكر سراج الدين، واسمه الإنجليزى مارتن لينجز، وقد استلهمت جمعية المكنز الإسلامى جهوده فى عملها فى فنون القرآن ، الذى كان مع زميله تيتوس بوركار أبرز المسلمين الغربيين الذين كتبوا بتوسع عن الفنون التقديسية فى الإسلام ، وإلى مرتبتهم الرفيعة ينتمى أيضا الشيخ سيد حسين نصر، الذى تكرم علينا بمقدمة ’عن هارمونية الكلمة‘ (مذكورة فيما بعد) كتبت خصيصا لهذا المعرض، وربما كان من الأوفق هنا أن نطرح مقتطفات من كتابى ’روائع فن الخط والتذهيب القرآنى‘ للشيخ أبى بكر سراج الدين , والذى نشرته مؤخرا جمعية المكنز الإسلامى، و’فن الإسلام‘ لتيتوس بوركار، ونأمل أن تكون هذه المقتطفات مفاتيحا للقارئ يفتح بها مسالك الدروب الباطنية فى فن الخط والتذهيب القرآنى فى لوحات Editio Electrum فى هذا المعرض.

وسيكون من المفيد أن نبدأ هذه المقتطفات بذكرى التاريخ الإسلامى المبكر عند الشيخ أبى بكر سراج الدين :

كانت قبائل العرب فى القرن السادس الميلادى قبل ظهور الإسلام تعانى من شدة الفاقة والفرقة، وكثرة المعارك والحروب فيما بينها ولم يكن العالم آنذاك يعرف عنها إلا أقل القليل، ثم تنزل الوحى الإلهى على أحد أبناء هذه القبائل النجباء، ولم تمضِ سنوات قلائل وبالتحديد فى 620 ميلادية حتى نبذ النبىَّ الجديد غالبيةُ قومه، واضطر إلى الخروج من وطنه وداره بمكة، فغادرها فى صُحبة واحد فقط من أصحابه، والخطر يحدق به من كل جانب، غادرها قاصدًا مستقبَلا مجهولا فى حاضرة يثرب التى تقع من مكة على مسيرة أحد عشر يومًا على الجِمال، وهى التى عرفت فيما بعد بالمدينة، وبعد مرور مائة وثلاث سنوات على هذه الواقعة كانت طلائع الدولة التى أسسها تعبر جبال البيرانيز إلى فرنسا بعد ما تم لها فتح جميع إفريقية الشمالية ومعظم بلاد جزيرة أيبيريا . أما فى الشرق فقد وصلت تلك الدولة إلى بلاد فارس والهند حتى مشارف الصين وبعد ذلك وقعت لها بعض الخسائر التى أعقبتها مكاسب أرجح منها وأعمق أثرًا، وبقى الإسلام يهيمن على أكثر تلك المناطق حتى يومنا هذا .

ولقد كان ذلك التوسع واحدا من أعظم التوسعات فى تاريخ الألفين الأخيرين من الأعوام، إن لم يكن أعظمها مطلقا، ويتحدث تيتوس بوركار عن ذلك التوسع وآثاره الدائمة، وعلاقته بلغة القرآن العربية:

ولم يكن ليقدّر لاجتياح العرب فى القرن السابع الميلادى بدون الإسلام، أن يزيد عن حكاية تاريخية عابرة فى الشرق الأوسط، ذلك حتى لو افترضنا إمكانية حدوثه دون اندفاعة دينية، وهم على حالهم من التخلف، فقد كان من شأن الحضارات العظمى أن تبذل جهدا قليلا فى استيعاب الطغام من البدو الأعراب، ولكان من شأن البدو غزاة الأراضى المزروعة أن ينتهوا إلى قبول عادات وأشكال تعبير الحضريين، إلا أن الأمر كان على عكس ذلك فى حالة الإسلام، وكان أن فرض البدو على الشعوب المهزومة أشكال تفكيرهم وتعبيرهم فى معظم الأحوال، وذلك بفرض لغتهم عليهم. والحق أن تجلى العبقرية العربية الاستثنائية والمتلألئة تجلت فى اللغة بما فيها الكتابة، وقد حفظت تلك اللغة التراث العرقى للعرب خارج بلادهم، كما أنها جعلتها تشع فيما وراء موطنها، وانتقلت العبقرية العربية بشكل فعال على يد اللغة العربية إلى الحواضر الإسلامية بكاملها. والقوة المعيارية الفائقة للغة العربية تعود إلى دورها كلغة مقدسة كما ترجع إلى طبيعتها السحيقة القدم، وكلا العاملين على صلة ببعضهما على كل حال، فخصائصها القديمة هى التى أهلتها كى تكون لغة مقدسة، وكان الوحى القرآنى هو ما جسّد مادتها القديمة، وليس القدم فى مرتبة اللغات مرادفا لبساطة التركيب بأية درجة، فعادة ما تتجه اللغات إلى الافتقار كلما تقادمت بفعل فقدان ثراء مفرداتها، وسهولة تنويع الجوانب المختلفة للفكرة الواحدة، وقوة التركيب التى تتميز بها، ألا وهى القدرة على التعبير عن أمور كثيرة بكلمات قليلة. وقد حاولت اللغات الحديثة أن تعوض ذلك الافتقار بأن صارت أكثر تعقيدا على المستوى الخطابى، وربما اكتسبت بعض الانضباط السطحى من جراء ذلك، ولكنها لم تستطع أن تعالج المضمون .

إن أشكال الفكر والتعبير التى أشير إليها عاليه، قد غذت وولدت تراثا من أعظم ما شهد الإنسان على مر القرون، تم تضفيره فى حميمية بحياة أعداد لا تحصى من المسلمين الذين يمثلون أعمق ما فى الإسلام، ويقول تيتوس بوركار:

لو أن المرء أجاب على سؤال ’ماهو الإسلام؟‘ بالإشارة ببساطة إلى أحد الأعمال المجيدة فى فن الإسلام، مثل جامع قرطبة، أو مسجد ابن طولون فى القاهرة، أو مدرسة من مدارس سمرقند، أو حتى إلى تاج محلّ، فإن تلك الإجابة تكفى ردًّا على اختصارها؛ إذ يتجلى الإسلام فى فنونه، ودون غموض ولا لبس .

ثم يضيف إلى ذلك:

وليس من العجب أو الغرابة أن التجليات الأكثر ظهورا لدين أو حضارة كالإسلام، والفن تعريفا هو تجل ظاهر، تعكس بطريقتها ما تبطنه تلك الحضارة. إن مادة الفن هى الجمال، ويرقى فى المفهوم الإسلامى إلى مرتبة الصفات الربانية، ويظهر منه بما هو ربانى جانبان، فيتجلى مظهر الجمال فى العالم، وهو الرداء الذى يُسبَغُ على الأشياء الجميلة، والأشياء الجميلة المصنوعة لوجه الله وبذاتها، كما أنها حال من التقوى والبركة الباطنة النقية، وهى الصفة التى تتميز عن كل الصفات الربانية التى تتبدى فى تجليات عالم الظاهر بأنها تُذَكِّرُ بالحىّ القيوم بشكل مباشر .

ويشير الشيخ أبو بكر سراج الدين بتوسع فى هذا الموضوع بالإشارة إلى ما ذكره فريذيوف شوون :

فى تعريفه الموجز والبعيد المدى للمكونات التى يتشكل منها الدين، يجعل فريذيوف شوون حضور الفن الدينى أحد المعايير التى تثبت أصالة وليس هذا بالأمر المدهش عند من يضع فى اعتباره وظيفة الفن الدينى، شريطة أن تؤخذ هذه الوظيفة بالمعنى الدقيق للعبارة، إذ هى تقع فى خط موازٍ لوظيفة رسالة الوحى ذاتها، لكونها ذات وقع بالغ الأثر على نفس الإنسان فى حال توجٌّهه إلى الحق المتعالى على عالم الشهادة . مع ذلك، فنادرا ما يكون ظهور الفن الدينى معاصرا للتأثير الابتدائى للدين، ولهذا فهو قادر على تعويض بعض الخسائر التى يحدثها طول الأمد وعوامل التدهور الروحى التى يأتى بها مرور الزمن وذلك لكونه فى المقام الأول ينقل للأجيال المتأخرة شيئا من حضور الرسول الذى شهده جيل السلف الأول . وقد جاء القرآن واضحا فى كون أن الرسول ينبغى اعتباره مثل تحفة فنية من صنع الله تعالى . يقول الله تعالى لموسى عليه السلام ( واَصْطَنَعْتٌكَ لِنَفْسِى ) فكأنه يقول له : لقد اصطنعتك كقطعة فنية من أجلى، ويقول فى آيه أخرى لمحمد عليه الصلاة والسلام ( وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ )

إن الخط العربى لهو قمة فنون التقديس الإسلامية، فهو الوسط الذى تنعكس فيه الأشكال البصرية للقرآن الكريم، ويقتبس من كتاب فريذيوف شوون ’فهم الإسلام‘ ما يلى:

إن آيات القرآن ليست مجرَّد ألفاظ تنقل لنا افكارا وحسب ،إنَّها، بمعنى من المعانى، موجدات وقوى وحصون حافظة من الشرور أيضا . إن نفس المسلم تكاد تكون منسوجة من هذه الصيغ المقدسة، ففيها يعمل وفيها يرتاح وفيها يحيا وفيها يموت .

إن استغراق الروح الإسلامية فى آيات القرآن الكريم وجوهرية أثرها على فنون التقديس الإسلامية، يتضح بإسهاب عند تيتوس بوركار:

ولغة القرآن الحكيم لها حضور كلى فى العالم الإسلامى، فحياة المسلم بكاملها مليئة بصيغ قرآنية تتردد فى الصلوات والدعوات والابتهالات التى اشتقت من الكتاب الحكيم، ويشهد على ذلك مخطوطات لا حصر لها، وحضورية القرآن وشموليته تعملان كترددات روحية، وليس هناك صيغة أخرى يمكن أن تصف نفوذا روحيا وصوتيا فى الوقت ذاته، وهذه الترددات هى التى تحدد الصيغ والموازين فى فن الإسلام، ويصبح فن الإسلام التشكيلى بطريقة ما انعكاسا لكلمة القرآن الحكيم .

وأهمية القرآن فى الإسلام، أو بالأحرى مركزيته الكاملة، قد استلزمت التسجيل الدقيق، وتطلب التسجيل بدوره خطوطا على أجمل ما يمكن، ويفسر الشيخ أبو بكر سراج الدين الأمر على هذا النحو:

إنَّ الحاجة إلى تسجيل ونقل كلِّ حرف من حروف القرآن بدقة تامة للأجيال التالية جعلت الاعتماد على شىء غير معصوم من الزلل مثل الذاكرة البشرية أمرا غير ممكن، على الرغم من أنَّ الذاكرة التى نتحدث عنها هنا كانت تتميز بجودة عالية . بيد أنَّ النقطة التى ينبغى أن يعوِّل عليها المرء هنا ليست هى أمر قوم لم يعرفوا الكتابة ولا العمارة فأصبحوا، بقوة الظروف وحدها، شعبا فيه الكتَّاب والبنَّاءون . إنَّ التشبيه الذى نعقده يقوم على تغيير من وضع لم يكن فيه شىء تقريبا إلى وضع أصبح فيه كل شىء، وفى حالة فن الخط بالذات، فإنَّ التغيير يدعو للدهشة أكثر من العمارة . فليس الأمر فقط أنَّ العرب لم يبزَّهم أحد فى فن الخط ولكن أيضا أنَّ أحدا من الشعوب ربما لم يبلغ فيه درجتهم ، إلا الصينيين الذين تطور عندهم هذا الفن فى اتجاهاتٍ مختلفة تماما. على كلِّ حال، لا يمكن اعتبار التفوق الذى تميزت به حضارة النَّبى الأمِّى فى فن الكتابة شيئا عجيبا أو متناقضا، حتَّى بغض النظر عن حسنات الدخول فى هذا المجال بدون عبءٍ يذكر من التجارب السابقة، فعزوف العرب أولاً عن كتابة الكلمات النفيسة لديهم لا شك أنَّه قد لعب دورا إيجابيًّا فى جذور نشأة الخط العربى . فهؤلاء الناس كانوا يعشقون جمال لغتهم وجمال صوت الإنسان . ولم يكن هناك أى معيار مشترك بين هاتين القمَّتين الجماليتين من جهة، وبين انعدام قيمة الخط الوحيد المتوفر لديهم من جهةٍ أخرى.فاستخفافهم بالكتابة كان تعبيرا عن شعورهم بقيمٍ أعلى . وعلى ضوء ما أسفرت عنه النتائج النهائية، فمن المشروع لنا الآن أن نفترض أنَّ موقفهم هذا كان بمثابة الجانب الآخر لحالة تهيئهم لتلقى الإلهام بفن الخط، فكأنَّهم قد قالوا: إذا لم يكن لنا خيار من تدوين رسالة الوحى، فليكن هذا السجل المكتوب تجربةً تعدل فى قوة تأثيرها على العين عندما تراه قوة السجل المحفوظ فى الذاكرة فى تأثيره على الأذن عند سماع النطق بالكلمات أو ترتيلها .

ويقول تيتوس بوركار عن العلاقة البصرية بين الخط العربى وبين اللغة التى يسجلها، ما يتعلق عن قرب بموضوعنا هنا:

إن فن الخط العربى هو أكثر فنون الإسلام عربية، وهو ينتمى بالرغم من ذلك إلى العالم الإسلامى بكامله، حتى إنه يعتبر أنبل الفنون قاطبة، فهو الذى يجسد شكل كلمة الوحى الربانى فى القرآن، وكان الأمراء والأميرات يعكفون على نسخ القرآن الحكيم فى خط جميل، والخط هو أكثر الفنون انتشارا بين المسلمين، فكل من يستطيع الكتابة قادر على تقويم حسنات الخط الجميل، ويمكن القول دون حرج من المبالغة بأنه لم يعمل فن من الفنون على تنميط الحاسة الجمالية لدى المسلمين مثل الخط العربى، ويحتاج المرء إلى الألفة مع أشكال الخط العربى وطرزه حتى يتابع الأطوار الكاملة لهذا الفن، وخاصة فى أشكاله الزخرفية فى المعمار، والتى تحكمه الأقوال المأثورة والحكم إلى حد بعيد. وبإمكاننا أن نعطى الخط العربى حقه فى ثراء أنماطه وصياغاته المدهشة، لو قلنا إنه يعرف كيف يزاوج بين أعلى قدر من الانضباط الهندسى وبين أكثر الإيقاعات غنائية، وقولنا ذاته يُعَرِّفَ القطبان اللذان يدور حولهما هذا الفن، وينجح فى تصالحهما بأنماط وطرق شتى، كل منها يمثل اتزانا بصريا مرهفا، وكل منها متسق مع ذاته تماما، فأحد خصائص الخط العربى النمطية أن كافة أشكاله أيان كان مولدها ما زالت حية قابلة للاستخدام، فالخط يستخدمها جميعا حسب طبيعة النصوص وسياقها، ولا يتردد فى اللجوء إلى تجاور أكثر الخطوط تباينا لو أتيحت الفرصة.

ويقول الشيخ أبو بكر سراج الدين عن فن التذهيب القرآنى:

لم يكن هناك مناص من أن ينشأ فن التذهيب القرآنى ببطء أكثر من نشأة فن الخط؛ لأنه لم يكن مطلوبا بشكلٍ مباشر من النص. أضِف إلى ذلك أنَّ ظهوره قد تعطل بسبب الخوف من السماح لأى شىء بالتطفُّل على النص. ومن ناحية أكثر إيجابية، بوسعنا أن نستيقن من أنَّ هذا التهيُّب هو الذى ضمن إيجاد القنوات الصحيحة على الوجه الدقيق من أجل سريان هذا التطوُّر نحو نتيجة هى، باتفاق العموم، صحيحة على نحو مثير للدهشة. لقد قيل" :إنَّ رأس الحكمة هو مخافة الله "هذه الحكمة السليمانية كانت دائمًا تتردد فى الإسلام، وهى ذاتها عبارة عن مركَّب ممزوج من حِكَم لها تطبيقاتٌ على جميع المستويات . إنَّ الفن الدينى يتصف بالحكمة، ومن الحديث الذى أوردناه عن عدم ذكر الأسماء يستتبع أنَّ فن الخط القرآنى نفسه، ناهيك عن فن التذهيب، كان لا بد أن يبدأ مسيرته على وتيرة تحفُّظ، كنوع من التأدُّب الذى يرتبط بالهيبة ويظهر وعى الفنان بالجلال الإلهى .

فى فن التذهيب القرآنى وصلت التصميمات التجريدية للفن الإسلامى أعلى درجات الجمال ، ويوضح الشيخ أبو بكر سراج الدين سياق ووظائف هذه التصميمات عندما تطبق على المخطوط القرآنى:

وقد نقول إنَّ القرآن نفسه يحمل لنا بعض الفرص التى هى بمثابة دعوات بالنسبة لفنان التذهيب . وأكثر هذه الدعوات وضوحا توجد فى مطالع السور، وفى الفواصل بين الآيات . كذلك توجد علامات تشير إلى مرور خمس أو عشر آيات، فيعطى ذلك الفرصة لزخرفة تتكرَّر بشكلٍ منتظم على الهامش، ويجد القارئ فى تلك الزخرفة أيضا عونا على معرفة مواقع النص التى يلزم عندها أداء سجدة . ثم إنَّه من طبائع الأمور، إذا كان مطلع سورة من السور يسمح بالتذهيب، فإنَّ مطلع السورة الأولى وبالتالى الكتاب بأكمله من باب أولى يمكن أن يعالج بعرضٍ فنى مبهر يخصه بالمزيد من الزخرفة .

ويذكرنا فى تعليقه بالوظيفة الجوانية للتذهيب القرآنى قائلا:

وعلينا أن نتذكر أن الغرض الأساسى من الزخرفة والتذهيب هو استدعاء البعد الأعلى والأعمق للنص . ولقد شرحنا فى فصلٍ سابق أنَّ العلاقة بين الكتاب المكنون والقرآن المنزل هى علاقة جلال وجمال، علاقة قبض، أو قل تحفظ، بالنسبة للتوسُّع، ومهما بدت هذه العلاقة وكأنَّها متناقضة، إلا أنَّ تذهيب المخطوطات يبقى ليذكرنا بالكتاب المكنون، ولذا فإن دوره العام هو إسباغ الجلال بالنظر إلى جمال النص .

ويشار أحيانا إلى تصميمات الفن الإسلامى باسم أرابيسك، ويقول تيتوس بوركار عن هذا المصطلح:

يشتمل الأرابيسك بمعناه العريض على الزخرفة بتضفير الأشكال النباتية والهندسية الصرف، والزخرفة الأولى منهما هى إيقاع، أو هى على الأصح نسخة بصرية للإيقاع، أما الثانية فهى بللورية بطبيعتها، ونجد فى هذا النطاق أيضا أن قطبى مجمل التعبير الفنى فى الإسلام هما حساسية الإيقاع , وروح الهندسة.

ثم يفسر الأشكال النباتية المحورة:

ولا تحمل الزخارف النباتية التى تبالغ فى الأسلوب سوى شبه قليل بالنبات، ولكنها تمثل تناظرا كاملا مع قوانين الإيقاع البصرى، فهى تتفتح منبثقة أبدا كموج البحر، فى مراحل متباينة ذات رنين مختلف الدرجات، فالتصميم لا يقتصر على التماثل، وعوضا عن ذلك يلجأ دوما للتكرار الذى تتأكد طبيعته الإيقاعية فى التوازن الجمالى بين الصوت والصمت، وبين الشكل والخلفية.
والحق أن الإيقاع لا ينتمى إلى المكان بل إلى الزمان، حيث يمثل فيه الإيقاع على الزمن قياسا كيفيًّا لا كميًّا، إلا أن توسط الحركة فى الاتساق مع الزمن يجعل الإيقاع قائما فى بعد المكان والشكل.

ويعطينا الشيخ أبو بكر سراج الدين مثالا لاستخدام التذهيب فى المصاحف:

تلاوة القرآن لا ينبغى أن يُنظر إليها على أنها محدودة بهذا العالم، إذ إنَّ تداعياتها ترتفع فترقى إلى السموات العلى،هناك حيث تنتظر المؤمن ثمارها. إنَّ القرآن، بعبارة أخرى، يستخدم رمز الشجرة حتَّى يحرِّر به ذاته فى وعى المؤمن وإدراكه الباطنى من الوقوع فى أسر الوهم القائل بأنَّ هذا مجرَّد كتاب مثل غيره من الكتب . وهكذا، يمكننا أن نقول: إنَّ القرآن يفتح بذلك طريقا روحيا للمشتغل بالتذهيب بما يطلعه عليه من كيفية إطلاق الحضور غير المتناهى من أسر التناهى .فلا حاجة بنا إذن إلى الدهشة من أنَّ واحدة من أكثر الزخارف القرآنية أساسيةً فى تذهيب القرآن مستوحاةٌ من نموذج الشجرة، تلك هى الشُّجيرة، ولا حاجة لنا أيضا لأن نشك فى أنَّ الغرض منها هو أن ترمز للكلمة الطيبة .

ونعود إلى استطراد تيتوس بوركار عن التصميم الهندسى:

وعندما يتأهب الفنان المسلم، أو الحرفى المسلم، وهو نفس المعنى، لزخرفة مساحة بالمضفورات الهندسية التى تمثل للفطرة أكثر الأشكال قبولا؛ فهى تعبير مباشر عن فكرة التوحيد الربانى التى تنبثق منها الاختلافات التى لا تنفذ فى العالم، والحق أن الوحدة الربانية بهذا المفهوم هى فيما وراء كل تعبير، فطبيعتها الكلية تجعلها لا تترك شيئا خارجها، فهى ’بلا ثنائية‘ إلا أنها تنعكس على العالم فى الاتساق المتناغم، والذى ليس إلا ’وحدة فى الكثرة، وكثرة فى الوحدة‘ فى آن واحد، والضفير يعبر عن الجانبين معا، إلا أنه يذكرنا فى جانب آخر بالوحدة التى هى فيما وراء كل الأشكال، أى إن كل الأشكال قد تأسست من عنصر وحيد قد يكون ضفيرة أو خطا يرتجع إلى ذاته إلى الأبد.